هل يمكن تطبيق لمنهج التجريبي على المادة الحية ؟ "طريقة جدلية"
المقدمة : لقد كانت العلوم قديمة مندمجة في الفلسفة إذا كانت هذه الأخيرة تلقب بأم العلوم ولكن مع حلول العصر الحديث بدأت هذه العلوم تنفصل تدريجيا لأنها أصبحت تختلف باختلاف مواضيعها ومن أهم العلوم التي انفصلت عنها الفيزياء ولقد وصل العلماء في خذا المجال إلى الكثير من القوانين والاكتشافات الهامة وذلك بفضل المنهج التجريبي ولقد كان دافعا العلوم أخرى مثل البيولوجيا لأن تبلغ مصافها وقد أثار هذا جدلا بين العلماء حول إمكانية دراسة المادة الحية دراسة تجريبية وخضوعها للحتمية خاصة بعد الناجحات والنتائج الدقيقة التي حققها المنهج التجريبي بعد تطبيقه على المادة الجامدة مما أدى إلى ظهور نزعتين إحداهما ترى إمكانية التجريب على المادة الحية والثانية ترى استحالة ذلك وعليه الإشكال المطروح إذا كان التجريب ممكن علة المادة الجامدة فهل يمكن تطبيقه على المادة الحية ؟
الأطروحة الأولى :
نجد هناك اختلاف وانقسام حول هذا المشكل إلى طرفين متناقضين بحيث يذهب الطرف الأول الذي تمثله النزعة المادية التي يرى أنصارها استحالة التجريب على المادة الحية وعلى رأسهم العالم الفرنسي كوفييه وذلك نظرا لصعوبات تواجه المجرب والتي تمكن في أن المادة الحية تتميز بعدة خصائص تعيق تطبيق المنهج التجريبي عليها من الوحدة العضوية فكل جزء فيها تابع للكل غير قابلة للانقسام فتكون في صورة معقدة ومتشابكة كالجهاز التنفسي وما يشمل عليه من أعضاء لتأدية وظيفة التنفس فإذا اضطر البيولوجي مثلا أن يعرف وظيفته عضويا اضطر إلى نزعه وهذا من شأنه أن يحدث اضطرابا في التوازن العضوي للكائن الحي كما انه لا يستطيع أن يدرس عملية التنفس بمعزل من عمالية الهضم وفي هذا الصدد يقول كوفييه :<< إن سائر أجزاء الجسم الحي مرتبطة فيما بينها فهي لا تستطيع الحركة بقدر ما تتحرك كلها معا والرغبة في فصل جزء من الكتلة معناها نقله إلى نظام الذوات الميتة ومعناها تبديل ماهيته تبديلا تاما >>. حيث يؤكد قوله هذا على عدم إمكانية تطبيق المنهج التجريبي على المادة الحية فلا يمكن استئصال عضو أو زرع عضو مكان الأخر كما أن الظواهر البيولوجية تقوم بعدة وظائف حيوية كالتكاثر ،التغذية،التنفس،والنمو مما يجعلها في تغيير مستمر .والظواهر البيولوجية ليست سهلة التصنيف كما هو الشأن في ظواهر المادة الجامدة وتعود هذه الصعوبة إلى أن كل كائن حي ينطوي على خصوصيات ينفرد بها دون غيره.وكل محاولة تقسيم الكائنات الحية إلى أصناف تكاد تقضي على الفردية فتصنيف الحيوانات مثلا تصنيفا مرفولوجيا أو فيزيولوجيا عمل مصطنع يشوه طبيعة الموضوع . وإذا طبقنا المنهج التجريبي على المادة الحية وتوصلنا إلى نتيجة فلا يمكن تعميمها على جميع أفراد الجنس الواحد .كالحيوان والإنسان ،كما أن العلماء يستخدمون الحيوانات في تجاربهم كالأرنب والضفدع ويجدون صعوبة في تطبيقها على الإنسان ،إضافة أن المادة الحية تتكون من عناصر دقيقة جدا تصب ملاحظتها مثل : الخلية والاعصاب وهي في حركة دائما ،وإذا كانت الملاحظة غير ممكنة فالفرضية أصعب منها هذا ما يجعل التجريب على المادة الحية غير ممكن...
النقد :
لكن التسليم بما ذهب إليه أنصار هذه الأطروحة والتي مفادها انه لا يمكن تطبيق المنهج التجريبي على المادة الحية يبقى غير مؤكد لأن في هذا الرأي تحطيم للعلم الإنساني وبخطوات المنهج التجريبي فمع تطور العقل البشري استطاع الإنسان أن يقوم بعدة تجارب على المادة الحية. فهل يعني هذا انه من الممكن تطبيق المنهج التجريبي على البيولوجيا ؟
الأطروحة الثانية :
نجد هناك موقف معارض للموقف الأول والذي يرى أنصاره أن علوم المادة الحية تستطيع أن تبلغ مصاف العلوم الأخرى كالفيزياء وذلك بتطبيق المنهج التجريبي عليها بكامل خطواته فرضية، ملاحظة، تجربة ،فيقول زعيم هذا الموقف كلود برنار:<<إن التجربة هي الوسيلة الوحيدة التي نملكها لنتطلع على طبيعة الأشياء التي هي خارجة عنا>> .فرغم الصعوبات التي كانت تعترض المنهج التجريبي في البيولوجيا إلا أنها بدأت تقل مع تقدم المنهج وتقدم وسائل الملاحظة والتجريب كالمجهر الالكتروني والضوئي واستعمال وسائل التحضير مما ساعد العلماء على كشف خبايا الكائنات الحية انطلاقا من المحيط المتواجدة فيه ويرجع الفضل في ذلك إلى العالم الطبيعي "كلود برنار"في كتابه <<مدخل لدراسة الطب التجريبي >> الذي عرف كيف يستثمر طريقة التجريب في المادة الجامدة وتكثيفها لدراسة المادة الحية مع الحفاظ على طبيعتها وخصوصياتها حيث يقول:<< لابد لعلم البيولوجيا أن يأخذ المنهج التجريبي من العلوم الفيزيائية والكيميائية لكن مع الاحتفاظ بحوادثه الخاصة >> ومع تقدم العلم والتكنولوجيا استطاع العلماء أن يقوموا بالملاحظات المباشرة على المادة الحية والتجارب باستعمال الأشعة ومختلف الآلات التقنية ومن بين هذه التجارب:تجارب الهدم وتقوم على قطع العضو أو استئصاله قصد التعرف على وظيفته وتأثيره على بقية الأعضاء مثل قطع عصب وإبقائه حيا.
تجارب تقوم على زر الأعضاء سواء كانت اصطناعية أو طبيعية مثل عملية زرع الكلى وعملية زرع القرنية...الخ.بالإضافة إلى تجارب تغيير نمط الغذاء كتجربة كلود برنار حول الأرانب حيث بين أن المادة الحية تخضع لمبدأ الحتمية كالمادة الجامدة .وبالتالي يمكن دراستها تجريبيا لذلك يقول كلود برنار:<< إن إنكار تحليل الكائنات الحية عن طريق التجريبية هو إيقاف للعلم وإنكار للمنهج التجريبي>>
وعلم التشريح مكن العلماء من معرفة أعضاء الجسم وعلم الفيزيولوجيا يختص في وظائف تلك الأعضاء وعلم الميكروفولوجيا الذي يستعمل وسائل في غاية الدقة والتطور مثل الليزر،والسكانير وإذا تأملنا في الكائن الحي نجده يتكون من نفس المكونات التي تكون المادة الجامدة مثل: الماء،الحديد،الكلسيوم،والجسم الحي يقوم بإنشاء مواد خاصة به مثل السكريات والبروتينات والدسم وتلك التفاعلات التي تحدث في المعدة هي نفسها التفاعلات التي تحدث في المخابر فالدورة الدموية ليست سوى عملية ميكانيكية تخضع لنفس قوانين الميكانيك المعروفة في الفيزياء وفي هذا الصدد يقول كلود برنار:<< ينبغي على البيولوجيا أن تأخذ للمنهج التجريبي من العلوم الفيزيائية والكيميائية لكن مع الاحتفاظ بظواهرها النوعية وقوانينها الخاصة >>
النقد :
صحيح ما ذهب إليه أنصار هذا الطرح في انه يمكن تطبيق المنهج التجريبي على المادة الحية والدليل على ذلك تطور التجريب في البيولوجيا بصورة كبقية بالمقارنة مع ماكان عليه.لكن هذا لا يعني أن العلماء قد تجاوزوا كل القيود والعوائق فهناك الكثير من الأشياء الدقيقة التي عجز العلم على كشف خباياها كمرض السيدا والسرطان .
على الرغم من طبيعة موضوع المادة الحية المتميزة بالتغير والتشابك والتعقيد إلا أن الضرورة والتطور العلمي يحتم علينا إتباع المنهج التجريبي بخطواته في دراسة المادة الحية.وما يؤد إلى ذلك تطور وسائل الملاحظة والتجريب ،الإضافة إلى النتائج المتوصل إليها يجب أن تكون مماثلة للنتائج المتوصل إليها في المادة الجامدة .
إذا كان المنهج التجريبي هو مقياس الحقيقي لكل بحيث يريد أن يكون علميا وموضوعيا فإن العمل في مجال العلوم البيولوجية أي دراسة الظواهر الحية يحتاج إلى تطوير لوسائله لكي يستوعب مجالات تلك الظواهر وتجاوز العوائق التي تظهر أمام الباحث
في امان الله وبالتوفيق لكل طلاب شهادة البكالوريا