نظريات الصحافة وعلاقتها بالسلطة
في تفسير علاقة الصحافة، بالسلطة، في المجتمع، عبر التاريخ، ظهرت مجموعة من النظريات التي تفسر تطور الصحافة، ودورها في المجتمع، وعلاقتها بالسلطة الحاكمة، أو فلسفة الصحافة بشكل عام، ومن أبرز هذه النظريات:
1. نظرية السلطة، أو النظرية السلطوية Authoritarian
نشأت هذه النظرية في القرنين السادس عشر، والسابع عشر، في إنجلترا وتستند إلى فلسفة السلطة المطلقة للحاكم، أو لحكومته، أو لكلاهما معاً، ويظهر ذلك في نظريات أفلاطون، وأرسطو، وميكيافيلي، وهيجل. وغرضها الرئيسي هو حماية وتوطيد سياسة الحكومة، القابضة على زمام الحكم، وخدمة الدولة. ويعمل، في الصحف، ويصدرها، من يستطيع الحصول على ترخيص، من الحاكم، وتشرف الحكومة على الصحف، وتفرض الرقابة عليها. ويحظر، في إطار هذه النظرية، نقد الجهاز السياسي، والموظفين الرسميين. وملكية الصحف قد تكون خاصة أو عامة، وتكون أداة لترويج سياسات الحكومة ودعمها . وترى النظرية، أن الصفوة، التي تحكم الدولة، هي التي تملك أن توجه العامة، التي لا تعد مؤهلة، لاتخاذ القرارات السياسية. وأن الشخص، الذي يعمل بالصحافة، يكون عمله هذا، بمثابة امتياز خاص، يمنحه إياه القائد، لذلك فهو مدين بالالتزام للقائد وحكومته. وحرية وسائل الإعلام في ظل هذه النظرية تتحدد بالقدر الذي تسمح به القيادة الوطنية في أي وقت.
2. نظرية الحرية أو النظرية الليبرالية Libertarian
تعود هذه النظرية، بشكل أساسي، إلى عصر النهضة الأوروبية، وبالتحديد، القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، إذ بلور عدد من المفكرين الأوربيين، كثيراً من المبادئ، التي تحدت الأفكار السلطوية، التي سادت، حتى بداية عصر النهضة الأوروبية. وكان، من أبرزهم، المفكر الإنجليزي جون ميلتون، الذي كتب، عام 1664، يقول: "إن حرية النشر، بأي واسطة، ومن قبل أي شخص، مهما كان اتجاهه الفكري، حق من الحقوق الطبيعية، لجميع البشر، ولانستطيع أن نقلل من حرية النشر، بأي شكل، وتحت أي عذر".
أمَّا جون لوك، فقد عرّف الحرية بأنها "الحق في فعل، أي شيء، تسمح به القوانين". وكان لوك قد قَدَّم إلى البرلمان الإنجليزي، عام 1965، بياناً هاجم، فيه، تقييد حرية الصحافة، واضطر البرلمان، في ذلك الوقت، إلى إلغاء قانونه بفرض الرقابة الوقائية على الصحف.
لم يتحقق الانتصار الأول للنظرية الليبرالية، على النظرية السلطوية، أو نظرية السلطة إلاّ خلال القرن الثامن عشر، حين أصدر البرلمان البريطاني قراراً أكد على حظر أية رقابة مسبقة، على النشر، كما أباح، للأفراد، إصدار الصحف، من دون الحصول على ترخيص، من السلطة. وقد جاء هذا التعاون، نتيجة لأفكار المفكر الإنجليزي، بلاكستون، الذي أكد أن حرية الصحافة ضرورية، لوجود الدولة الحرة، وذلك يتطلب عدم وجود رقابة مسبقة، على النشر، ولكن يمكن أن يتعرض الصحفي للعقاب، بعد النشر، إذا تضمن هذا النشر جريمة، وكل إنسان حر أن ينشر ما يشاء، على الجمهور، ومنع ذلك يعد تدميراً لحرية الصحافـة.
جاء دستور الولايات المتحدة الأمريكية ليحظر، بشكل كامل، تدخل الدولة، في مجال حرية الصحافة، إذ نص على أنه يحظر على الكونجرس، أن يصدر أي قانون يقيد حرية التعبير والصحافة.
وتقوم أفكار الليبراليين، على أسس، أنه لابد من تقديم كل أنواع المعلومات، والأفكار للجمهور، وأن النقد الحر ضرورة، لتحقيق الرفاهية والتقدم، وأن الجماهير مجتمعة، أو أغلبيتها، تستطيع اتخاذ القرارات، التي تكون، دائماً، أقرب إلى الحقيقة، وهذه الثقة بالجماهير تجعلها قادرة، على انتخاب ممثليهم، وتوجيههم وتغييرهم، عندما يكون ذلك ضرورياً.
ويحدد المفكر الإعلامي السويدي، دينيس ماكويل، العناصر الرئيسية لنظرية الحرية، فيمـا يلي:
أ.
إن النشر يجب أن يتحرر من أية رقابة مسبقة.
ب.
إن مجال النشر والتوزيع يجب أن يكون مفتوحاً، لأي شخص، أو جماعة من دون الحصول على رخصة مسبقة من الحكومة.
ج.
إن النقد الموجه، إلى أية حكومة، أو حزب سياسي، أو مسؤول رسمي، يجب ألاّ يكون محلاً للعقاب، حتى بعد النشر.
د.
ألاّ يكون هناك أي نوع من الإكراه، أو الإلزام، بالنسبة للصحفي.
هـ.
عدم وجود أي نوع من القيود، على جمع المعلومات، ونشرها، بالوسائل القانونية.
و.
ألاّ يكون هناك أي قيد على تلقي أو إرسال المعلومات، عبر الحدود القومية.
ز.
يجب أن يتمتع الصحفيون، بالاستقلال المهني، داخل مؤسساتهم الصحفية.
أسهمت النظرية الليبرالية، بشكل كبير، في تحرير الصحافة، من سيطرة الدولة، فأنهت وجود الكثير، من القيود، التي تفرضها السلطة على الصحافة، واستطاعت دول الشمال (أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية) أن تتمتع، خلال القرن التاسع عشر، وحتى منتصف القرن العشرين، بقدر كبير، من التعددية، والتنوع، في مجال الصحافة، واستطاعت الصحافة أن تدير، في هذه المجتمعات، مناقشة حرة بين، كافة الاتجاهات السياسية، وأن تنقل هذه المناقشات، إلى الجماهير، وهو ما أسهم في تقدم هذه المجتمعات، وزيادة حيويتها.
ولكن أوضاع الصحافة، في أوروبا، وأمريكا، خلال النصف الثاني، من القرن العشرين، ابتعدت بشكل كبير، عن تلك الأفكار الليبرالية، فتناقصت تعددية الصحف وقل تنوعها، وقلت بالتالي قدرتها على القيام بوظائفها، في الوفاء بحق الجماهير في المعرفة، وإدارة المناقشة الحرة، في المجتمع، ونقلها للجماهير.
وقد لعب تزايد الاتجاه، إلى الاحتكار، والتركيز في ملكية الصحافة، دوراً أساسياً في تعريض هذه النظرية للنقد، من كافة الاتجاهات السياسية. وبرزت رؤية أخرى، حتى من جانب المؤمنين بهذه النظرية تقول: "إن حرية الصحافة وحرية التعبير، لا يمكن ضمانها، إلاّ في حالة ما يكون إنتاج الأفكار وتوزيعها، بعيداً عن السيطرة الرأسمالية من ناحية، والسيطرة البيروقراطية السياسية، من ناحية أخرى".
3. نظرية المسؤولية الاجتماعية Social Responsibility
بدأت المراجعات النقدية للنظرية الليبرالية للصحافة، ابتداء من العقد الثاني، من القرن العشرين، ولكنها بلغت ذروتها، بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، عندما تشكلت لجنة حرية الصحافة من اثني عشر أستاذاً أكاديمياً، يرأسهم البروفيسير روبرت هوتشنز. وضمت، بين أعضائها أبرز نقاد الصحافة الأمريكية مثل وليم ديفرز وتيودور بترسون.
أجرت اللجنة دراستها على الصحافة الأمريكية، بتمويل من مجلة تايم الأمريكية، ودائرة المعارف البريطانية، وقدمت تقريرها، في كتاب أعدته اللجنة كاملة، عام 1947، بعنوان: " صحافة حرة مسؤولة".
ولقيت دعوة اللجنة إلى صحافة حرة ومسؤولة، صدى داخل الولايات المتحدة وخارجها، في بلدان أوروبا، وعلى رأسها المملكة المتحدة فتشكلت اللجنة الملكية الأولى للصحافة، عام 1949، ودعت إلى التزام العاملين، في الصحافة، بمسؤوليتهم الاجتماعيـة، وتشكيل مجلس للصحافة.
ونص تقرير لجنة حرية الصحافة، لعام 1947، على أن صناعة الإعلام، في الولايات المتحدة، يجب أن تستمر، في يد القطاع الخاص، واضعة في اعتبارها، المصلحة العامة، ووضعت اللجنة مجموعة تصورات، حول وظائف الصحافة، في المجتمع الحديث، وعدد من التوصيات للحكومة، والمؤسسات.
فمن حيث وظائف وسائل الإعلام، في المجتمع المعاصر، رأت اللجنة أن الصحافة يجب أن تقوم بالوظائف التالية:
أ. تقديم تقرير صادق وشامل وذكي، عن الأحداث اليومية.
ب. أن تعمل كمنبر لتبادل التعليق، والنقد.
ج. أن تقدم صورة للجماعات المتنوعة التي يتكون منها المجتمع.
د. أن تبرز أهداف المجتمع، وقيمه، وتوضحهما.
هـ. أن توفر معلومات كاملة عما يجري يومياً.
وأوصت لجنة حرية الصحافة الحكومة، بتطبيق الضمانات الدستورية، لحرية الصحافة، وأن تعمل على تسهيل ظهور وسائل إعلام جديدة، واستمرار المنافسة، بين الوسائل القائمة، كما طالبت اللجنة بإلغاء التشريع، الذي يحظر، على الأفراد، مساندة إجراء تغييرات ثورية، على المؤسسات القائمة؛ لأن هذا التشريع يهدد المناقشات السياسية والاقتصادية.
وأوصت اللجنة المؤسسات الإعلامية بتقديم خدمة، تتسم بالتنوع، والكم الملائم لاحتياجات الجماهير، فضلاً عن زيادة مراكز الدراسة الأكاديمية، والبحث والنشر، في مجال الإعلام، وإنشاء هيئة جديدة مستقلة، لتقييم أداء الصحافة لعملها، وتقديم تقرير سنوي حول هذا الأداء. كما أوصت اللجنة العاملين، بمجال الإعلام، بالنقد المتبادل، وأن يقبلوا مسؤوليتهم كناقل عام للمعلومات والمناقشة.
كما قدم أستاذ أمريكي، هو كيرتس مونتجري، في كتابه "مسؤولية رفع المعايير"، رؤية جديدة للمسؤولية، تقول إنه، إذا قامت الصحافة بإعلام الناس، والمحافظة على خصوصيتهم، ومراعاة قيمهم، فهذه نصف المسؤولية، ولكن النصف الآخر هو بيان مسؤولية الجماهير، تجاه المادة المذاعة، التي هي بدورها تجاه أنفسهم، إذ يجب، على الجمهور، ألاّ يتعامل مع ما يقدم، من خلال الصحافة والتليفزيون، على أنه وجبة، كتلك التي يشتريها من السوبر ماركت، بل عليه أن يدرك الوقائع، ولا يتقبلها كما يقرأها أو يسمعها، بل يزن الأفكار، التي تتفق، أو تختلف، مع ميوله ويضع افتراضاته الأساسية محلاً للنقاش.
ويساوي روبرت راي، في كتابه "مسؤولية الجرائد"، بين المسؤولية الاجتماعية، وصدق الأخبار والحيدة، لأنها أساس حق القراء في المعرفة، ثم المناقشة الديموقراطية الحقة، في المجتمع، والتي تسهم في تطويره.
ويلخص دينيس ماكويل المبادئ الأساسية، لنظرية المسؤولية الاجتماعية، في الجوانب التالية:
أ.
إن الصحافة، وكذلك وسائل الإعلام الأخرى، يجب أن تقبل، وأن تنفذ التزامات معينة، تجاه المجتمع.
ب.
يمكن تنفيذ هذه الالتزامات، من خلال الالتزام بالمعايير المهنية، لنقل المعلومات، مثل الحقيقة والدقة، والموضوعية والتوازن.
ج.
لتنفيذ هذه الالتزامات يجب أن تنظم الصحافة نفسها بشكل ذاتي.
د.
إن الصحافة يجب أن تتجنب نشر ما يمكن أن يؤدي إلى الجريمة، والعنف والفوضى الاجتماعية، أو توجيه أية إهانات إلى الأقليات.
هـ.
إن الصحافة يجب أن تكون متعددة، وتعكس تنوع الآراء، وتلتزم بحق الرد.
و.
إن للمجتمع حقاً، على الصحافة، فيأن تلتزم بمعايير رفيعة، في أدائها لوظائفها.
ز.
إن التدخل العام يمكن أن يكون مبرراً لتحقيق المصلحة العامة.
ويلاحظ أن هذه النظرية قد طرحت بعض الحلول، التي تتمثل، في تنظيم مهنة الصحافة، من خلال إصدار مواثيق شرف مهنية، لحماية حرية التحرير الصحفي، والممارسة الصحفية، وإصدار قوانين للحد من الاحتكار، وإنشاء مجالس للصحافة، وإنشاء نظام لتقديم إعانات للصحف.
ولكن مجمل الأفكار، التي طرحتها هذه النظرية، لم تكتمل أمامها، فرصة التنفيذ، بشكل تام، فقد نظر الصحفيون الأمريكيون إلى هذه الأفكار على أنها تمثل اتجاهاً، نحو الاشتراكية، وخطراً على حرية الصحافة، كما قوبلت هذه الأفكار بمعارضة عنيفة، من مجموعات ملاك الصحف. ومع ذلك، يمكن القول أن نظرية المسؤولية الاجتماعية قد حققت بعض النتائج الإيجابية، في بعض دول أوروبا، مثل السويد، التي واجهت حظر سيطرة الاحتكارات، على صحافتها، بإنشاء نظام لتقديم إعانات حكومية للصحف، بهدف المحافظة على التنوع الصحفي، مما أدى، خلال حقبة الستينات، إلى المحافظة على بقاء كثير، من الصحف الصغيرة، في السويد.
لقيت فكرة تقديم معونات للصحف، رفضاً شديداً، في بريطانيا وغيرها، من دول أوروبا خوفاً من استغلال الحكومات لها، في التدخل، في شؤون الصحافة. كما صدرت قوانين للحد من الاحتكار، والتركيز، في ملكية الصحافة، في بريطانيا وفرنسا لكنها لم تستطع أن توقف تزايد معدل التركيز، والاحتكار أو تحافظ على بقاء الصحف الصغيرة.
4. النظرية الشيوعية Communist
شهد الربع الأول، من القرن العشرين، ميلاد نظرية الصحافة الشيوعية. والتي يُعدّ كارل ماركس الأب الروحي لها، النظرية متأثراً بفلسفة زميله الألماني، جورج هيجل. وترتكز هذه النظرية على أن وظائف وسائل الإعلام، في المجتمع الشيوعي، هي نفسها وظائف الجهاز الحاكم، أي دعم بقاء وتوسع النظام الاشتراكي، وأن هذه الوسائل يجب أن توجد، لنشر السياسة الاشتراكية، وليس لها أن تبحث عن الحقيقة. وفي ظل هذه النظرية، فإن وسائل الإعلام الجماهيرية تعد أدوات للحكومة، وجزءاً، لا يتجزأ، من الدولة، والدولة تملك وتقوم بتشغيل هذه الوسائل، والحزب الشيوعي هو الذي يقوم بالتوجيه، وتسمح النظرية الشيوعية بالنقد الذاتي (مثل الحديث عن الفشل في تحقيق الأهداف الشيوعية).
تفترض النظرية الشيوعية، أن الجماهير أضعف، وأجهل من أن تحاط علماً، بكل ما تقوم به الحكومة، ووسائل الإعلام يجب أن تعمل دائماً من أجل الأفضل، والأفضل، عادة، هو ما تقوله القيادة ويتفق، بطبيعة الحال، مع خط النظرية الماركسية، ومن ثم، فإن كل ما تفعله وسائل الإعلام كي تدعم، وتساهم في، إنجاح الشيوعية، يعد أخلاقياً، في حين، أن كل ما تفعله لعرقلة الإنجاز الشيوعي، يعد غير أخلاقي.
استخدمت النظرية الشيوعية مفردات كثيرة للدعاية، أكثر منها، للتنظير العلمي، كشعارات تكافؤ الفرص، والمساواة والعدالة الاجتماعية والتقدم الثقافي ورفع الاستغلال عن طبقات الشعب العامل. وبانهيار الشيوعية، وسقوط الاتحاد السوفيتي، عام 1989، على يد الرئيس السوفيتي، ميخائيل جورباتشوف، تهاوت النظرية الشيوعية، في الإعلام، كذلك.
5. نظرية المسؤولية العالمية والدولية للصحافة
قدم الدكتور مختار التهامي، عام 1958، مشروع دستور دولي للصحافة يمثل نظرية جديدة من نظريات الإعلام، يطلق عليها اسم نظرية المسؤولية العالمية، والدولية، مضيفاً بذلك، نظرية خامسة، إلى نظريات الإعلام الأربع، المعروفة وقتها، وهي: نظرية السلطة، والنظرية الليبرالية، ونظرية المسؤولية الاجتماعية، والنظرية الاشتراكية.
وتقوم نظرية المسؤولية العالمية والدولية للصحافة، على مطلب أساسي، وهو أن تخلع الصحافة رداء السلبية عنها، وأن تدخل ميدان المعركة الدولية الكبرى، بين أعداء الإنسانية، وأصدقائها، لكي تلعب الدور الإيجابي، الذي يحتمه عليها الارتباط الوثيق، بين تاريخ الصحافة، وكفاح الشعوب، وتقدمها في مدارج الديموقراطية الحقيقية. وتلقي النظرية على كواهل الأسرة الصحفية العالمية، مسؤولية ضخمة، وتطالبها، باسم شرف المهنة الصحفية، وباسم الإنسانية، وباسم الشعوب التي وثقت فيها، واعتمدت عليها، ألاّ تخون هذه الشعوب، في هذه المرحلة الحرجة، من تاريخ المجتمع الدولي الحديث، بل من تاريخ الجنس البشري، بأجمعه، وأن تتقدم إليها، بالحقيقة كاملة عن الأوضاع والتيارات، التي تسيطر على مجتمعنا الدولي المعاصر، وتتحكم في حياة الملايين ورفاهيتهم وطمأنتهم، دون مجاملة لأحد، أو ضغط من أحـد.
وأُطلق على هذا المشروع نظرية المسؤولية العالمية والدولية، وهو ينقسم إلى أربعة أقسام، هي:
أولاً:
تصريح صحفي عالمي، إلى جميع شعوب العالم، يدعوها إلى اتخاذ مواقف إيجابية مشتركة معينة، لتأكيد السلام والرفاهية العالمية، وهذا التصريح يستمد وجوده، من دراسة الحقائق السياسية والاقتصادية والنفسية الدولية المعاصرة.
ثانياً:
ميثاق شرف دولي، يرتبط به الصحفيون أنفسهم، ويستقي مواده، من هدي التصريح سالف الذكر، ومن هدي البحث الذي قدمه.
ثالثاً:
مشروع اتفاقية دولية، ترتبط بها حكومات العالم، لتأمين حرية الصحافة.
رابعاً:
مجموعة من التوصيات مقدمة، إلى الأمم المتحدة، وفروعها.
6. نظرية صحافة التنمية أو النظرية التنمويـة
لا تزال هذه النظرية عبارة عن مجموعة من الآراء والتوصيات، الملائمة لكافة وسائل الإعلام ووظائفها، في الدول النامية. وتكتسب هذه النظرية وجودها المستقل عن نظريات الصحافة الأخرى، من اعترافها وقبولها للتنمية، وتأكيدها على هوية الأمة، ووحدتها وتماسكها، ورفضها التبعية والسلطوية المتعسفة.
وصحافة التنمية، كما يعرفها ليونارد سوسمان، هي تركيز الصحفيين الموضوعيين، على أخبار أحدث التطورات، في مجالات التنمية المختلفة، الأمر الذي يؤدي إلى نجاح التنمية الاقتصادية، وتحقيق الوحدة الوطنية، أو هي: "استخدام الحكومة لمنافذ الاتصال، لتحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية". وتتطلب صحافة التنمية من الصحف، كما يقول ناريندر اجاروالا، أن تتفحص بعين ناقدة، وتقيم وتكتب، عن مدى ارتباط المشروع التنموي، بالحاجات المختلفة والقومية، وتتفحص الاختلافات بين الخطة وتطبيقها، والاختلاف، بين آثارها على الناس، في تصريحات المسؤولين، وبين آثارها الفعلية.
ويلاحظ التناقض بين الاستخدام الحكومي للصحافة، في خدمة التنمية، وبين الدور الرقابي للصحافة؛ ففي ظل السيطرة الحكومية، يتراجع النقد وتتحول أخبار التنمية، إلى دعامة سياسية للحكومة وقيادتها. ولعل هذا التناقض هو الذي دعى المفكر الإعلامي الإنجليزي، أنتوني سميث، إلى التأكيد على ضرورة التفرقة، بين صحافة التنمية والاتصال في خدمة التنمية، إلاّ أنه يرى أن المفهومين يتداخلان، في إطار السيطرة الحكومية. وهو ما يؤكده، كالريب راميال، مشيراً إلى تساند مفاهيم "صحافة التنمية"، و"الصحافة الموجهة"، و" الاتصال في خدمة التنمية ".
ووفق النظرية التنموية، تتلخص مهام وسائل الإعلام، في عملية التنمية، في النقاط التاليـة:
· تشكيل اتجاهات الشعب، وتنمية هويته الوطنية.
· مساعدة المواطنين، على إدراك، أن الدولة الجديدة قد قامت بالفعل.
· انتهاج سياسات، تقررها الحكومة، بهدف المساعدة، في تحقيق التنمية الوطنية.
· تشجيع المواطنين، على الثقة بالمؤسسات، والسياسات الحكومية، مما يضفي الشرعية على السلطة السياسية، ويقوى مركزها.
· الإسهام في تحقيق التكامل السياسي والاجتماعي، من خلال بحث الصراعات السياسية والاجتماعية، وإحباط أصوات التشرذم والتفرقة، والتخفيف من التناقضات، في القيم والاتجاهات، بين الجماعات المتباينة.
· المساعدة في الاستقرار، والوحدة الوطنية، وتغليب المصلحة الوطنية على المصلحة الذاتيـة.
· إبراز الإيجابيات، وتجاهل السلبيات، وتقليل حجم النقد إلى أدنى حد.
وصحافة التنمية هي النتيجة الطبيعية للصحافة الثورية، فهي تسعى إلى خلق أمة جديدة وتنميتها. ويرى بعض الباحثين أن الصحافة الثورية وصحافة التنمية، من الضرورات الأساسية لقيادة معركة تحرير بلد من البلاد، من السيطرة الأجنبية، وهما يمثلان مصدر فزع، لمؤيدي الوضع الراهن، والمدافعين عنه، وهذان النمطان من أنماط الصحافة قد يتسمان، في بعض الأحيان، بالحماس العاطفي، والابتعاد عن الموضوعية، بل وحتى الميل إلى الجدل العنيف، والعدوانية.
7. نظرية المشاركة الديموقراطية Participant Democratic
تعد هذه النظرية أحدث إضافة إلى نظريات الصحافة، وأضعفها تحديداً، فهي تفتقر، حتى الآن، إلى وجود حقيقي، في الممارسات المختلفة، للمؤسسات الإعلامية، فضلاً عن أن بعض سياساتها تتضمنها نظريات الصحافة الأخرى.
برزت هذه النظرية من واقع الخبرة العملية، كاتجاه إيجابي، نحو ضرورة وجود أشكال جديدة، في تنظيم وسائل الإعلام، كما نشأت كذلك، كرد فعل مضاد للطابع التجاري، والاحتكاري لوسائل الإعلام المملوكة، ملكية خاصة، وتوجد هذه النظرية في المجتمعات الليبرالية المتقدمة، على الرغم من ارتباطها ببعض العناصر، التي تطرحها النظرية التنموية، خاصة ما يتعلق منها بالتأكيد على أسس المجتمع، والاهتمام بالاتصال الأفقي، بدلاً من الاتصال الرأسي، من أعلى إلى أسفل، والذي يعني سلبية مشاركة المتلقي، في عملية الاتصال، وهو اتجاه واضح تماماً، في الدول الأوروبية، خاصة دول اسكندنافيا، وبعض الدول الأوروبية الأخرى.
ويعبر مصطلح المشاركة الديموقراطية عن معنى التحرر، من الأحزاب السياسية القائمة، والنظام البرلماني الديموقراطي، الذي بدا وكأنه انفصل عن جذوره، وأنه يعوق المشاركة، في الحياة الاجتماعية والسياسية، بدلاً من أن يدعمها.
وتنطوي هذه النظرية على آراء معادية لنظرية المجتمع الجماهيري، الذي يتسم بالتنظيم المعقد، والمركزية الشديدة، الذي فشل في أن يوفر فرصاً حقيقية للأفراد والأقليات، في التعبير عن اهتماماتها ومشكلاتها. وترى هذه النظرية أن الصحافة الحرة فاشلة، بسبب خضوعها لاعتبارات السوق، التي تفرغها من محتواها. وترى أن نظرية المسؤولية الاجتماعية غير ملائمة بسبب ارتباطها ببيروقراطية الدولة. وترى أنالتنظيم الذاتي، لوسائل الإعلام، لم يمنع نمو مؤسسات إعلامية، تمارس سيطرتها، من مراكز قوة في المجتمع. وفشلت وسائل الإعلام، في مهمتها، وهي تلبية الاحتياجات الناشئة من الحياة اليومية للمواطن.
وهكذا فإن الفكرة الأساسية، في نظرية المشاركة الديموقراطية، تكمن في احتياجات ومصالح وآمال جمهور متلق نشط، في مجتمع سياسي، وحق المواطن، في استخدام وسائل الاتصال، من أجل التفاعل والمشاركة، على نطاق صغير في مجتمعه. ويعتقد مؤيدوها أن وسائل الإعلام، التي تنشأ، في ظل هذه النظرية، سوف تُعني أكثر بالحياة الاجتماعية، وتخضع لسيطرة مباشرة، من جمهورها، وتقدم فرصاً للمشاركة، على أسس، يحددها مستخدموها، بدلاً من المسيطرين عليها.
وتتلخص المبادئ الأساسية لهذه النظرية، في الأمور التالية:
· إن للمواطن الفرد، ولجماعات الأقليات، حق الوصول إلى وسائل الإعلام، واستخدامها، ولهم كذلك، الحق في أن تخدمهم وسائل الإعلام، طبقاً للاحتياجات، التي يحددونها هم.
· إن تنظيم وسائل الإعلام، ومحتواها، لا ينبغي أن يكون خاضعاً لسيطرة بيروقراطية حكومية، أو سياسية مركزيـة.
· ينبغي أن توجد وسائل الإعلام، أصلاً، لخدمة جمهورها، وليس من أجل المنظمات، التي تصدر هذه الوسائل، أو المهنيين العاملين بها، أو عملائها، أو جمهورها.
· إن الجماعات والمنظمات والتجمعات المحلية، ينبغي أن يكون لها وسائلها الإعلامية.
· إن وسائل الإعلام، صغيرة الحجم، التي تتسم بالتفاعل والمشاركة، أفضل من وسائل الإعلام المهنية الضخمة، التي ينساب محتواها، في اتجاه واحد.
· إن الاتصال أهم من أن يترك للمهنيين.
ويتمثل الوجود الفعلي لهذه النظرية، في الصحافة السرية، وما أُطلق عليه محطات راديو القراصنة، والتليفزيون اللاسلكي، في التجمعات المحلية ووسائل الإعلام، في التجمعات الريفية، ومنشورات الشوارع، والملصقات السياسية.
ويتوقع البعض أن تفتح التطورات التكنولوجية آفاقاً أرحب، أمام هذه النظرية، من خلال إتاحة أجهزة النسخ، بأسعار منخفضة، والوصول إلى مزيد من قنوات الاتصال الإلكترونية، ويتوقع أن يظل تأثير هذه القنوات الجديدة، على أوضاع وسائل الإعلام، القائمة الآن، هامشياً، خلال المستقبل المنظور.
نحو نظرية إسلامية
يطرح الدكتور حمدي حسن رؤية إسلامية يناقش، خلالها، الافتراضات الأساسية، للنظريات السابقة، ويؤكد في تلك الرؤية، على الأمور التالية:
أ.
إن الثواب والعقاب الإلهي يشكلان الأساس الأخلاقي، للممارسات الاجتماعية، لوسائل الإعلام، أو لغيرها، ولأن المسؤولية الاجتماعية هي مفهوم نسبي، يرتبط بالتقاليد، والأعراف الاجتماعية السائدة، حتى وإن كانت مخالفة للشريعة الإسلامية، فإن هذا المفهوم يكتسب بعداً آخر، في الدولة الإسلامية، يختلف كثيراً عنه في المجتمعات الأخرى، فالمسؤولية الاجتماعية تظل هي الأخرى مرتبطة بالثواب والعقاب الإلهي، الوازع الأساسي للأخلاق الإسلامية، على مستوى الفرد، أو وسائل الإعلام.
ب.
إن تحديد الرؤية الإسلامية، لعمل وسائل الإعلام، يعتمد على نفي ما يخالف العقيدة ويلحق الضرر بالمجتمع الإسلامي، أكثر مما يعتمد على إثبات وتحديد كل ما هو صالح.
ج.
إن النظرية الإسلامية لا تحدد نمطاً معيناً لملكية وسائل الإعلام، ولا تحدد مصادر، بعينها، لتمويل هذه الوسائل. ولكنها معنية بالتأثيرات المختلفة، التي قد تمارسها هذه العوامل على أداء وسائل الإعلام للوظائف المنوطة بها، في المجتمع الإسلامي.
ويضيف الدكتور حمدي حسن: " لقد رأينا، من قبل، أن اهتمام النظرية الليبرالية بالربط المحكم، بين حرية وسائل الإعلام، والملكية الخاصة لهذه الوسائل، قد أدَى إلى استبدال سيطرة أصحاب المصالح بالسيطرة الحكومية. وكذلك فإن إصرار النظرية الشيوعية على الملكية العامة لوسائل الإعلام، قد أدى إلى دكتاتورية حزبية، باعتبار الحزب هو الممثل الوحيد للشعب، وبما أن وسائل الإعلام ملك للشعب؛ فإن الملكية تؤول في النهاية، إلى الحزب، وكذلك فإن حرية الشعب في التعبير عن رأيه، التي تنص عليها الدساتير الشيوعية، تصبح في النهاية، هي حرية الحزب الحاكم، في التعبير عن آرائه ".
فالنظرية الإسلامية، في الإعلام، لا تنبثق من ثنائية القيد والحرية، ولكنها تعتمد كلية، على ثنائية أخرى، وهي: الحلال والحرام. والفارق الأساسي، بين هاتين الثنائيتين، يكمن في سيطرة الضمير الفردي، والمسؤولية الاجتماعية، على العلاقة، بين ما هو مقيد وما هو حر، وارتباط العلاقة بين الحلال والحرام بالثواب والعقاب الإلهي، وفي ظل الثنائية الأخيرة، فإن الحرية تصبح التزاماً ".